حروفي تعني التحرّر من إملاءات السلطة!
لافي الشمري
l.alshamari@aljarida.com
نجا المهداوي فنان تشكيلي تونسي يهتم بالحروف وجمالياتها، ويقدّر مساهمتها في انفتاح الثقافات والتواصل مع الآخر. يعتبر استخدام الحروف والإشارات في أعماله نتاج موقف عفوي لعدم الرضوخ لسلطة القيم المفروضة. يسعى إلى أن يفرغ الحرف من معناه، رافضاً تقييد القارئ في أسر المحتوى البصري، متمنياً أن يسافر مع الكلمات في رحلة تشكّلها. «الجريدة» التقته أثناء زيارته الأخيرة للكويت وكان معه الحوار التالي.
ترصد في أعمالك التشكيليّة وحدة نوعية، هل تتوخى ايصال رسالة ما؟
قضيتي الرئيسة في الرسم هي السعي الي الإبداع والإفلات من المتاهة الثقافية التي تجبرنا على الإذعان لنوع محدد أو لأسلوب مسبق ومنجز. وقراري في استخدام أجزاء من الحروف أو الرموز في أعمالي ينبع من رفضي العفوي لتجليّات قيمة الحروف.
في فن الخط تكتسب الحروف المكتوبة مكانة رمزية، لكن حين تفقد تحديداتها الخارجية يصبح القارئ مضطراً إلى الجوء إلى خياله ليتمكن من فك الرموز لبلوغ المعنى الكامن في الكلمة. ولتحقيق رغبة حقيقية أسعى إليها من خلال التزامي بهذا النوع من الفن كان لا بد لي فكرياً وثقافياً أن أبدأ بتفكيك أشكال المدارس الأخرى وتأثيراتها، ثم كان من الضروري أن أباشر في تعرية الشكل المكتوب أي القواعد والرموز الثقافية كما أسلفت، والانفصال عن كتابات الفعل المرئي العلمية وعن املاءات السلطة.
كيف يستطيع الفنان تخطي هذه الخطوط الحمر عبر الحروفيات؟
أولاً، لا بد أن بستعيد الفنان إشاراته ورموزه الخاصة في سياق المعرفة الإنسانية، ثم يحاول المزج بين كل ما لا يلائم هويته كفنان إلى أن يتوصل من خلال فعل الإبداع إلى الدلالة على مرجعية التوجه المستقبلي. وأشير هنا إلى أن استخدام الحروف والإشارات في أعمالي كان نتاج موقف عفوي لعدم الرضوخ لسلطة القيم المفروضة.
هل استعاد فن الخط مكانته في عصر الصورة؟
بلا ريب. استعاد فن الخط مكانته، متغلباً على الصورة وداعياً كل من يتأمل الكلمة إلى فك رموزها والتخيّل والقراءة، سواء كان المتلقي من الناطقين باللغة العربية أو من غير الناطقين بها. ثمة أثر جمالي فني يظهر عبر اللوحات، لا سيما أن قواعد المرئي والحسي المتعارف عليها هي ظواهر مفهومة قابلة لتفقد معنى العلاقات الإنسانية النفسيّة – الحسيّة المرمز. وهو معنى يلائم وسائل الاتصال، ويتحقق عندما تقدّم اللوحة شمولية شكليّة تجريدية لكيان عام محدد ونهائي. في الرسوم الغرافيكية للحروف العربية، أعمد إلى هدم القسوة من خلال الإيقاع والقوانين الأكاديمية لفن الخط، وهي قيم لزمن مختلف ولنظام معرفي آخر.
ثمة حالة من السأم من الخطاب المكرّر، هل تعتقد أن الشعور ذاته يتشكّل لدى المتلقي في يتعلّق بالكتابات الجمالية؟
كل علامة مكتوبة تستلزم استخدام العقل من خلال مقاربة اللغة البنيوية، والتخلّص من العلاقة الحسيّة المباشرة بين المرء والعمل، فيسعى المشاهد إلى فك الأشارات والرموز، في موقف ثقافي تجاه العلاقات والامتلاك والأنتماء. والأشارة التي تدّل على ثقافة محددة تأتي محسوسة قبل أن تكون مرئية في تجلياتها وتحوّلها. ونظراً إلى المقاربة النظرية تنتج هذه الإيقاعات والكتابات الجمالية توجهات جديدة للفكر، يختبر من خلالها المشاهد قدراته البصريّة على حساب انفعالاته العفوية.
كيف تتخلّص من العامل الزمني في لوحاتك، لا سيما أن بعض الأنواع من الخط يدل على حقبة معينة؟
عندما يقدّم العمل بمنطقه الطبيعي، تنبض مكنوناته المادية كافة بالانسجام والتساوي وتحضّ على النمو فكرياً وحسياً. وتجنب تصنيف الأعمال الفنية في مفاهيم خاصة وأزمان معينة يلغي المساحة الوهمية، ويمهد الطريق أمام التبادل العالمي.
هل يفرض شكل الحروف العربيّة الغرافيكي العربية اتجاهاً معيناً في اللوحة؟
ومن وجهة نظري يجب أن نتحرر من شكل الحروف العربيّة الغرافيكي ونتجاوز بنية الأسلوب. أؤمن أن الهدف الأخير الذي يجب أن يتحقق هو انجاز عمل فني تشكّل مواده رموزاً مثقلة المعنى. وقد سعيت إلى استخراج قوة الدلالة الأصلية لهذه المواد لأبتكر جمالية من الشكل، وعندما ركزت على الشكل وتجاهلت المعنى استمتعت بحريتي في تقديم التركيبات والتوليفات التي أحب كلها، وأتمنى ألا يبقى القارئ أسير المحتوى البصري، بل أن يسافر مع الكلمات في رحلة تشكّلها.
ترسم حالات متنوّعة من الجمال، ما هي الحالات الأكثر تأثيراً في روحك كفنان؟
يسود الحب أعمالي، وسأشعر بألم عميق إذا رأيت في مكان ما، وبطريقة ما، محاولة للجم الأبداع، خصوصاً أذا كان الطريق إلى الأبداع الفني قد قُطع عن إنسان وفنان حقيقي. ستكون معاناتي كبيرة إذا اكتشفت مثلاً أن شاعراً منع من التعبير عن مكنونات قلبة وروحه. كم تبدو عندها أسباب الصراعات بين الناس قليلة الأهمية سواء كانت تجارية أو دينية أو ثقافية.
التعامل مع حروف، تهدف إلى تعزيز التواصل والمساهمة في نمو المعرفة، يسهّل الطريق أمام المشاعر لتعبّر عن نفسها. والروح مدينة بتحررها من التحولات التاريخية كافة لموقف المبدع الصارم، وهذا الشرط هو في جوهر طبيعة العلم والفلسفة، فالذاكرة الإنسانية تشكّلت من حروف تحمل معانٍ معترف بها في سياق كينونة الفكر الإنساني المعقد.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire